الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الحجة الثانية: قوله تعالى: {وأَقِيمُواْ الصلاة} والصلاة لفظة مفردة محلاة بالألف واللام فيكون المراد منها المعهود السابق، وليس عند المسلمين معهود سابق من لفظ الصلاة إلا الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها: وإذا كان كذلك كان قوله: {أقيموا الصلاة} جاريًا مجرى قوله: أقيموا الصلاة التي كان يأتي بها الرسول، والتي أتى بها الرسول عليه الصلاة والسلام هي الصلاة المشتملة على الفاتحة، فيكون قوله: {أقيموا الصلاة} أمرًا بقراءة الفاتحة وظاهر الأمر الوجوب، ثم إن هذه اللفظة تكررت في القرآن أكثر من مائة مرة فكان ذلك دليلًا قاطعًا على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة.الحجة الثالثة: أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها طول عمرهم، ويدل عليه أيضًا ما روى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يستفتحون القراءة ب {الحمد لله رب العالمين}، وإذا ثبت هذا وجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي» ولقوله عليه الصلاة والسلام: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» والعجب من أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تمسك في مسألة طلاق الفار بأثر عثمان مع أن عبد الرحمن وعبد الله بن الزبير كانا يخالفانه ونص القرآن أيضًا يوجب عدم الإرث، فلم لم يتمسك بعمل كل الصحابة على سبيل الأطباق والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة مع أن هذا القول على وفق القرآن والأخبار والمعقول؟الحجة الرابعة: أن الأمة وإن اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا لكنهم اتفقوا عليه في العمل، فإنك لا ترى أحدًا من المسلمين في المشرق والمغرب إلا ويقرأ الفاتحة في الصلاة، إذا ثبت هذا فنقول: إن من صلى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركًا سبيل المؤمنين فيدخل تحت قوله: {وَمَن يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] فإن قالوا إن الذين اعتقدوا أنه لا يجب قراءتها قرءوها لا على اعتقاد الوجوب، بل على اعتقاد الندبية فلم يحصل الإجماع على وجوب قراءتها، فنقول: أعمال الجوارح غير أعمال القلوب، ونحن قد بينا إطباق الكل على الإتيان بالقراءة، فمن لم يأتِ بالقراءة كان تاركًا طريقة المؤمنين في هذا العمل، فدخل تحت الوعيد، وهذا القدر يكفينا في الدليل، ولا حاجة بنا في تقرير هذا الدليل إلى ادعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب.الحجة الخامسة: الحديث المشهور، وهو أنه سبحانه وتعالى قال: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} يقول الله تعالى: حمدني عبدي...»، إلى آخر الحديث، وجه الاستدلال أنه تعالى حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ثم بين أن هذا التنصيف لم يحصل إلا بسبب آيات هذه السورة، فنقول: الصلاة لا تنفك عن هذا التنصيف، وهذا التنصيف لا يحصل إلا بسبب هذه السورة، ولازم اللازم لازم، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة.الحجة السادسة: قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب». قالوا: حرف النفي دخل على الصلاة، وذلك غير ممكن، فلابد من صرفه إلى حكم من أحكام الصلاة، وليس صرفه إلى الصحة أولى من صرفه إلى الكمال، والجواب من وجوه: الأول: أنه جاء في بعض الروايات: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وعلى هذه الرواية فالنفي ما دخل على الصلاة وإنما دخل على حصولها للرجل، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها، وخروجه عن عهدة للتكليف بسببها، وعلى هذا التقدير فإنه يمكن إجراء النفي على ظاهره، الثاني: من اعتقد أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة فعند عدم قراءة الفاتحة لا توجد ماهية الصلاة لأن الماهية يمتنع حصولها حال عدم بعض أجزائها، وإذا ثبت هذا فقولهم إنه لا يمكن إدخال حرف النفي على مسمى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفاتحة ليست جزأ من الصلاة، وهذا هو أول المسألة، فثبت أن على قولنا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره.الثالث: هب أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره، إلا أنهم أجمعوا على أنه متى تعذر العمل بالحقيقة وحصل للحقيقة مجازان: أحدهما: أقرب إلى الحقيقة.والثاني: أبعد فإنه يجب حمل اللفظ على المجاز الأقرب، إذا ثبت هذا فنقول: المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحًا أتم من المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي يكون صحيحًا لكنه لا يكون كاملًا، فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى.الوجه الرابع: أن الحمل على نفي الصحة أولى لوجوه: أحدها: أن الأصل إبقاء ما كان على ما كان، والثاني: أن جانب الحرمة راجح، والثالث: أن هذا أحوط.الحجة السابعة: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، غير تمام». قالوا: الخداج هو النقصان، وذلك لا يدل على عدم الجواز، قلنا: بل هذا يدل على عدم الجواز؛ لأن التكليف بالصلاة قائم، والأصل في الثابت البقاء، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصلاة على صفة الكمال، فعند الإتيان بها على سبيل النقصان وجب أن لا نخرج عن العهدة، والذي يقوي هذا أن عند أبي حنيفة يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه لو صام يوم العيد قضاء عن رمضان لم يصح، قال: لأن الواجب عليه هو الصوم الكامل، والصوم في هذا اليوم ناقص، فوجب أن لا يفيد هذا القضاء الخروج عن العهدة، وإذا ثبت هذا فنقول: فلم لم يقل بمثل هذا الكلام في هذا المقام.الحجة الثامنة: نقل الشيخ أبو حامد في تعليقه عن ابن المنذر أنه روى بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب».والحجة التاسعة: روى رفاعة بن مالك أن رجلًا دخل المسجد وصلى، فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل: علمني الصلاة يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا توجهت إلى القبلة فكبر، واقرأ بفاتحة الكتاب» وجه الدليل أن هذا أمر، والأمر للوجوب، وأيضًا الرجل قال: علمني الصلاة، فكل ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم وجب أن يكون من الصلاة، فلما ذكر قراءة الفاتحة وجب أن تكون قراءة الفاتحة جزءًا من أجزاء الصلاة.الحجة العاشرة: روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «ألا أخبركم بسورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها»، قالوا: نعم، قال: «فما تقرؤن في صلاتكم؟» قالوا: {الحمد لله رب العالمين}، فقال: «هي هي»، وجه الدليل أنه عليه الصلاة والسلام لما قال: ما تقرؤن في صلاتكم فقالوا: الحمد لله، وهذا يدل على أنه كان مشهورًا عند الصحابة أنه لا يصلي أحد إلا بهذه السورة، فكان هذا إجماعًا معلومًا عندهم.الحجة الحادية عشرة: التمسك بقوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} [المزمل: 20] وجه الدليل أن قوله: «فاقرؤا» أمر، والأمر للوجوب، فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة، فنقول: المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة أو غير الفاتحة، أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها والأول: يقتضي أن تكون الفاتحة بعينها واجبة، وهو المطلوب، والثاني: يقتضي أن تكون قراءة غير الفاتحة واجبة علينا، وهو باطل بالإجماع، والثالث: يقتضي أن يكون المكلف مخيرًا بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها، وذلك باطل بالإجماع، لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها، وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص، والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز.واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين فهي متيسرة للكل، وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون، وحينئذٍ لا تكون متيسرة للكل.الحجة الثانية عشرة: الأمر بالصلاة كان ثابتًا، والأصل في الثابت البقاء، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بها للصلاة المشتملة على قراءة الفاتحة، لأن الأخبار دالة على أن سورة الفاتحة أفضل من سائر السور، ولأن المسلمين أطبقوا على أن الصلاة مع قراءة هذه السورة أكمل من الصلاة الخالية عن قراءة هذه السورة، فعند عدم قراءة هذه السورة وجب البقاء على الأصل.الحجة الثالثة عشرة: قراءة الفاتحة توجب الخروج عن العهدة باليقين، فكانت أحوط فوجب القول بوجوبها للنص والمعقول، أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، وأما المعقول فهو أنه يفيد دفع ضرر الخوف عن النفس، ودفع الضرر عن النفس واجب؛ فإن قالوا: فلو اعتقدنا الوجوب لاحتمل كوننا مخطئين فيه، فيبقى الخوف، قلت: اعتقاد الوجوب يورث الخوف المحتمل، واعتقاد عدم الوجوب يورثه أيضًا فيتقابل هذان الضرران، وأما في العمل فإن القراءة لا توجب الخوف، أما تركه فيفيد الخوف، فثبت أن الأحوط هو العمل.الحجة الرابعة عشرة: لو كانت الصلاة بغير الفاتحة جائزة وكانت الصلاة بالفاتحة جائزة لما كانت الصلاة بالفاتحة أولى؛ لأن المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز، لكنهم أجمعوا على أن الصلاة بهذه السورة أولى، فثبت أن الصلاة بغير هذه السورة غير جائزة.الحجة الخامسة عشرة: أجمعنا على أنه لا يجوز إبدال الركوع والسجود بغيرهما، فوجب أن لا يجوز إبدال قراءة الفاتحة بغيرها، والجامع رعاية الاحتياط.الحجة السادسة عشرة: الأصل بقاء التكليف، فالقول بأن الصلاة بدون قراءة الفاتحة تقتضي الخروج عن العهدة، أما أن يعرف بالنص أو القياس، أما الأول فباطل، لأن النص الذي يتمسكون به هو قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} [المزمل: 20] وقد بينا أنه دليلنا، وأما القياس فباطل، لأن التعبدات غالبة على الصلاة، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس.الحجة السابعة عشرة: لما ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام واظب على القراءة طول عمره فحينئذٍ تكون قراءة غير الفاتحة ابتداعًا وتركًا للاتباع وذلك حرام لقوله عليه الصلاة والسلام: «اتبعوا ولا تبتدعوا»، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها».الحجة الثامنة عشرة: الصلاة مع الفاتحة وبدون الفاتحة إما أن يتساويا في الفضيلة أو الصلاة مع الفاتحة أفضل، والأول باطل بالإجماع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام واظب على الصلاة بالفاتحة، فتعين الثاني، فنقول: الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير جابر فوجب أن لا يجوز المصير إليه، لأنه قبيح في العرف فيكون قبيحًا في الشرع.واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} [المزمل: 20] وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج، وأنادي: «لا صلاة إلا بقراءة، ولو بفاتحة الكتاب».والجواب عن الأول: أنا بينا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا، وذلك لأن قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} [المزمل: 20] أمر، والأمر للوجوب، فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة فنقول: المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة، أو غير الفاتحة أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها، والأول: يقتضي أن يكون الفاتحة بعينها واجبة، وهو المطلوب، والثاني: يقتضي أن يكون قراءة غير الفاتحة واجبة بعينها، وهو باطل بالإجماع والثالث: يقتضي أن يكون المكلف مخيرًا بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها، وذلك باطل بالإجماع؛ لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها، وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز.واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين، فهي متيسرة للكل، وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون، وحينئذٍ لا تكون متيسرة للكل.وعن الثاني: أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وأيضًا لم لا يجوز أن يقال: المراد من قوله لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب هو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى؟ وإذا ثبت التعارض فالترجيح معنا؛ لأنه أحوط، ولأنه أفضل، والله أعلم.
.المسألة الثالثة: مقدار القراءة في الصلاة: لما كان قول أبي حنيفة وأصحابه أن قراءة الفاتحة غير واجبة لا جرم اختلفوا في مقدار القراءة، فقال أبو حنيفة: إذا قرأ آية واحدة كفت، مثل قوله: ألم، وحم والطور، ومدهامتان، وقال أبو يوسف ومحمد: لابد من قراءة ثلاث آيات قصار أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين.
|